الحقيقة أن ما نتحدث به عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعتبر كتاب جامع شامل لكل ما يحتاجه الإنسان في نفسه من أدبه مع ربه، ومن وسيلة للفتح والقرب من الله، ومن طريقة سديدة مرضية يصير بها عبداً مقرباً من حضرة الله، وفيه خير الآداب لمن أراد أن يترقى على أعلى الرتب عند الكريم الوهاب، ففيه أدب النبي الكريم مع صحابته، وأدبه الذي علَّم لصحابته، وفيه كل ما يحتاجه المرء في أمور دنياه، أو في تحقيق مراده عند مولاه جل في علاه.
ومما يدعوا لعظيم العجب ما رأيناه من سلفنا الصالح، وساداتنا المتقين والمقربين في تشبههم بكل الحركات والسكنات الظاهرة والباطنة على قدرهم بسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
والصالحون والمقربون يعلمون علم اليقين أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهره البشرية، وباطنه صورة ربانية نورانية، وجعل الله ظاهره صورة بشرية حتى يستطيعون الاقتداء به في حركاته وسكناته وقيامه وقعوده وجلوسه ونومه وأكله وشربه وغيرها من أمور الحياة التي يحتاج الإنسان فيها أن يتشبه بحَبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وجعله الله صورة كاملة ليكون للمؤمنين أجمعين وحدة؛ حتى في حركاتهم الظاهرة؛ حتى في ظهور مشاعرهم على وجوههم؛ حتى في الحركات التي تظهر منهم عند رضاهم أو سخطهم أو غضبهم، فوحَّد الله هذه المشاعر وجعلهم يقتدون فيها بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم كما قال سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ دَارَةُ القَمَر}{1}
أي الهالة التي حول القمرمن شدة سروره وانبساطه صلوات ربي وتسليماته عليه.
وكان إذا غضب يظهر الغضب في وجهه، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَضِبَ احْمَرَّ وَجْهُهُ}{2}
وعن سعيد الخدري رضي الله عنه قال: { َكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرِهَ شَيْئًا، عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ}{3}
وهذا ميزان المؤمن، فلا يزيد في الغضب عن ذلك، كما لا يزيد في الانبساط عن ذلك، لأن ميزانه حَبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم، وحتى نعلم علم اليقين ما مبعث غضبه صلى الله عليه وسلم قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: {مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ}{4}
فمثلاً: كان صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم، فجاءه رجل وقال: اعدل يارسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: {وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ}{5}
ولم يزد عن ذلك، فلم يقابل اللفظ باللفظ، ولم يطلب من غيره أن يرد عنه إساءته في هذا اللفظ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب لنفسه، وإنما غضبه لربه عز وجل.
كيف كان يظهر الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم؟ كان صلى الله عليه وسلم مقوس الحواجب، غير أنهما غير متواصلين، فكان بينهما عرق يضرب بشدة ويظهر إذا اشتد غضبه صلى الله عليه وسلم، ويحمر وجهه.
ونحن نعلم أن الإنسان إذا غضب فإن النفس تُترجم هذا الغضب إلى أفعال تفعلها الجوارح والأعضاء، فكيف كان صلى الله عليه وسلم يُترجم غضبه، ويُنفس عنه؟
كان صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجْده أكثر من مس لحيته، وأحياناً إذا اشتد وجْده مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس الصعداء وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فيُعرف بذلك شدة غمه، ليُعلم المؤمنين الطريقة المثلى للتنفيس عن الإنسان في ساعة الغضب، والتي بها يقتدي بسيد الأولين والآخرين، ولا يُغضب الله، ولا يزيد عن ذلك شيئاً في غضبه صلوات ربي وتسليماته عليه.
هل نستطيع أن نفعل ذلك؟ إذا ملكنا أنفسنا فنحن إن شاء الله بتوفيقه ومَنِّه نقدر على ذلك، وإذا فلت زمام أنفسنا فحدِّث ولا حرج عما هنالك.
{1} المعجم الكبير للطبراني
{2} معجم الطبراني والأنوار في شمائل النبي المختار
{3} صحيح مسلم وسنن ابن ماجة
{4} الصحيحين البخاري ومسلم
{5} الصحيحين البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه